فصل: (مسألة: اختلفا على أي عقد كان الرهن)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: اختلفا على أي عقد كان الرهن]

وإن رهنه عبدا، فاختلفا، فقال الراهن: رهنته بمائة بعقد، ثم زادني مائة أخرى، فعقدت له الرهن بها على العبد قبل فسخ العقد الأول، وقلنا: لا يجوز ذلك، وقال المرتهن: بل ارتهنته مائة بالمائتين بعقد واحد.. ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول الراهن مع يمينه؛ لأنهما لو اختلفا في أصل العقد.. لكان القول قوله، فكذلك إذا اختلفا في صفته.
والثاني: القول قول المرتهن مع يمينه؛ لأنهما اتفقا على عقد الرهن، والراهن يدعي معنى يقتضي بطلانه، والأصل عدم ما يبطله.

.[فرع: إقرار الراهن بعبد للمرتهن بألف]

إذا قال رجل لغيره: هذا العبد الذي في يدي هو لك، رهنتنيه بألف لي عليك، فقال المقر له: هذا العبد وديعة عندك لي، وإنما رهنتك بألف عليّ لك عبدا آخر، فقتلته، وأنا أستحق عليك قيمته.. فالقول المقر له مع يمينه: أنه ما رهنه هذا العبد. أو القول قول المقر مع يمينه: أنه ما قتل له عبدا، ولا شيء له عليه من القيمة؛ لأن الأصل براءة ذمته. وأما المقر له بالعبد.. فعليه الألف؛ لأنه مقر بوجوبها.

.[فرع: اختلف الراهن والمرتهن على مقدار الرهن]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "الأم": (إذا قال الرجل لغيره: رهنتك عبدي هذا بألف درهم لك علي، فقال المرتهن: بل رهنتنيه وزيدا بألفي درهم، ألف درهم لي، وألف درهم لزيد، وادعى زيد ذلك.. فالقول قول الراهن: أنه ما رهن زيدا شيئا، فإذا حلف.. كان العبد رهنا عند الذي أقر له به).
قال الشيخ أبو حامد: وهذا لا يجيء على أصل الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن المالك أقر للمرتهن برهن جميع العبد، وهو لا يدعي إلا رهن نصفه، وإنما ادعى زيد نصفه، وقد حلف له المالك، فوجب أن لا يبقى عند المقر له إلا نصف العبد مرهونا.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فأما إذا قال لغيره: رهنتك عبدي هذا بألف درهم لك علي، فقال المرتهن: هذا الألف الذي أقررت أنه لي رهنتني به هذا العبد هو لي ولزيد.. قبل ذلك؛ لأنه إقرار في حق نفسه، فقبل، فيكون الألف بينه وبين زيد).
وقال الشيخ أبو حامد: ولم يذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حكم الرهن هاهنا، ولكن يكون العبد رهنا بالألف؛ لأن المرتهن اعترف بالألف الذي ارتهن به أنه له ولغيره، فقبل إقراره في ذلك، كما لو كان له ألف برهن، فقال: هذا الألف لزيد.. كان له الألف بالرهن، كذلك هذا مثله.

.[مسألة: إرسال شخص برهن]

ذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في باب (الرسالة) من "الأم" [3/155] أربع مسائل:
الأولى: إذا دفع رجل ثوبا، وأرسله ليرهنه له عند رجل، فرهنه له، ثم اختلف الراهن والمرتهن، فقال المرتهن: أذنت له ليرهنه عندي بعشرين، وقد أعطيته العشرين، ورهنني الثوب بها. فقال المرسل: ما أمرته أن يأخذ إلا عشرة ويرهن بها، فإن صدق الرسول الراهن المرسل.. فالقول قول الرسول، فيحلف: إنه
ما رهنه إلا بعشرة، ولا يمين على المرسل؛ لأن الرسول هو الذي باشر العقد.
قال ابن الصباغ: وعندي: أن المرتهن إذا ادعى على المرسل: أنه أذن له في ذلك، وقبض منه عشرين بإذنه.. أن له أن يحلفه؛ لأن المرسل لو أقر بذلك.. لزمه ما قاله، فإذا أنكره.. حلف.
المسألة الثانية: إذا صدق الرسول المرتهن.. فالقول قول المرسل: أنه لم يأذن له في رهنه بعشرين، ولم يلزم المرسل إلا عشرة لا غير، ويلزم الرسول عشرة؛ لأنه أقر بقبض العشرين.
قال ابن الصباغ: وعندي: أن المرتهن إذا صدق الرسول أن الراهن أذن له في ذلك.. لم يكن له الرجوع على الرسول؛ لأنه يقر أن الذي ظلمه هو المرسل.
المسألة الثالثة: إذا دفع إليه ثوبا وعبدا، وأمره أن يرهن أحدهما عند رجل بشيء يأخذه له منه، فرهن الرسول العبد، ثم قال المرسل: إنما أذنت لك برهن الثوب، وأما العبد: فوديعة، وقال الرسول أو المرتهن: إنما أذنت في رهن العبد.. حلف المرسل: إنه ما أذن له برهن البعد، وخرج العبد عن الرهن بيمينه، وخرج الثوب عن الرهن؛ لأنه لم يرهن.
المسألة الرابعة: إذا قال المرسل: أمرتك برهن الثوب، ونهيتك عن رهن العبد. وأقام على ذلك بينة، وأقام الرسول بينة أنه أذن له في رهن العبد. فبينة الرسول أولى؛ لأنه يحتمل أن يكون قد أذن له في رهن العبد، ثم نهاه عن رهنه، فلا يصح رهنه، ويحتمل أن يكون قد أذن له في رهن الثوب، ونهاه عن رهن العبد، ثم أذن له في رهن العبد، فيصح، وإذا احتمل هذا وهذا، فقد وجد من الرسول عقد الرهن على العبد، والظاهر أنه عقد صحيح.. فلا يحكم ببطلانه لأمر محتمل).

.[مسألة: اختلفا في كون الرهن قرضا أو بيعا]

إذا كان في يد رجل عبد لغيره، فقال من بيده العبد للمالك: رهنتني هذا العبد بألف هي لي عليك قرضا، وقال المالك: بل بعتكه بألف هي لي عليك ثمنا.. حلف السيد: أنه ما رهنه العبد؛ لأن الأصل عدم الرهن، ويحلف من بيده العبد: أنه ما اشتراه؛ لأن الأصل عدم الشراء، ويبطل العقدان، ويسقط المالان، ويرد العبد إلى سيده.
وإن قال من بيده العبد: رهنتني هذا العبد بألف أقبضتكها. وقال السيد: بل رهنتكه بألف لم أقبضها.. فالقول قول السيد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القبض، فإذا حلف. بطل الرهن؛ لأن الرهن إنما يكون على حق في الذمة. وإن قال من بيده العبد: بعتنيه بألف، وقال السيد: بل رهنتكه بألف.. حلف السيد: إنه ما باعه العبد، فإذا حلف.. خرج العبد من يد من هو بيده؛ لأن البيع زال بيمين السيد، وبطل الرهن؛ لأن المالك يقر له به، والمرتهن ينكره، ومتى أنكر المرتهن الرهن.. زال الرهن.
قال الشيخ أبو إسحاق في "المهذب"، والمحاملي في " المجموع ": فإن قال السيد: رهنتكه بألف قبضتها منك قرضا، وقال الذي بيده العبد: بل بعتنيه بألف قبضتها مني ثمنا.. حلف كل واحد منهما على نفي ما ادعي عليه؛ لأن الأصل عدم العقد. وعلى السيد الألف؛ لأنه مقر بوجوبها.
قلت: والذي يقتضي القياس عندي: أنه لا يمين على الذي بيده العبد؛ لأنه ما ارتهن العبد؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها.

.[مسألة: اختلفا على عين أنها رهن أو إجارة]

وإن رهنه عينا فوجدت في يد المرتهن، فقال المرتهن للراهن: قبضتها بإذنك رهنا. وقال الراهن: لم آذن لك في قبضها، وإنما غصبتنيها، أو أجرتها منك، فقبضتها عن الإجارة. فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن.
وإن اتفقا على الرهن والإذن والقبض، ولكن قال الراهن: رجعت في الإذن قبل أن تقبض، وقال المرتهن: لم ترجع، ولم تقم بينة على الرجوع.. فالقول قول المرتهن مع يمينه: أنه ما يعلم أنه رجع؛ لأن الأصل عدم الرجوع.
وإن اتفقا على الرهن والإذن، واختلفا في القبض: فقال الراهن: لم تقبض، وقال المرتهن: بل قبضت.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (القول قول الراهن). وقال في موضع: (القول قول المرتهن).
قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، فإن كانت العين في يد الراهن.. فالقول قول الراهن؛ لأن الأصل عدم القبض.
والذي يقتضي المذهب عندي: أنه يحلف أنه ما يعلم أنه قبض؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره. وإن كانت العين في يد المرتهن.. حلف: إنه قبض؛ لأن الظاهر أنه قبض بحق.

.[فرع: رجوع الراهن عن إقباض العين للمرتهن]

وإن أقر أنه رهن عند غيره عينا، وأقبضه إياها، ثم قال الراهن للمرتهن: لم تكن قبضتها، وأراد منعه من القبض.. لم يقبل رجوعه عن إقراره بالقبض؛ لأن إقراره لازم. فإن قال الراهن للمرتهن: احلف: أنك قبضتها.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أحلفته). واختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق: إن كان المرهون غائبا، فقال: أقررت بالقبض؛ لأن وكيلي أخبرني: أنه أقبضه، ثم بان لي أنه لم يقبضه.. أحلف المرتهن؛ لأنه لا يكذب نفسه، وإنما يدعي أمرا محتملا. فأما إذا كان الرهن حاضرا، وأقر أنه أقبضه بنفسه، ثم رجع، وقال: لم يقبض.. لم تسمع منه دعواه، ولم يحلف المرتهن؛ لأنه يكذب نفسه.
وقال أبو علي بن خيران، وعامة أصحابنا: يحلف المرتهن بكل حال، وهو ظاهر النص. أما مع غيبة الرهن: فلما ذكر الشيخ أبو إسحاق. وأما مع حضوره: فلأنه قد يستنيب غيره بالإقباض، فيخبره: بأن المرتهن قد قبض، ثم تبين له أنه قد خان في إخباره، وأيضا فإنه قد يعده بالإقباض، فيقر له به قبل فعله، فكانت دعواه محتملة.
قالوا: وهكذا: لو أن رجلا أقر: بأنه اقترض من رجل ألفا، ثم قال بعد ذلك: لم أقبضها، وإنما وعدني أن يقرضني، فأقررت به، ثم لم يفعل.. لم يحلف، واستحلف المقرض؛ لأنه لا يكذب نفسه. فأما إذا شهد شاهدان: بأنه رهنه عبده وأقبضه، ثم ادعى أنه لم يقبضه، وطلب يمين المرتهن.. لم تسمع دعواه، ولم يحلف المقر له؛ لأن في ذلك قدحا في البينة.

.[مسألة: البيع بشرط أن يرهن عصيرا]

إذا باعه شيئا بشرط أن يرهنه عصيرا، فرهنه العصير، وقبضه المرتهن، فوجده خمرا، فقال المرتهن: أقبضتنيه خمرا، فلي الخيار في فسخ البيع. وقال الراهن: بل صار خمرا بعد أن صار في يدك، فلا خيار لك.. ففيه قولان:
أحدهما: أن القول قول المرتهن مع يمينه، وهو قول أبي حنيفة، والمزني؛ لأن الراهن يدعي قبضا صحيحا، والأصل عدمه.
والثاني: أن القول قول الراهن، وهو الصحيح؛ لأنهما قد اتفقا على العقد والتسليم، واختلفا في تغيير صفته، والأصل عدم التغيير وبقاء صفته، كما لو باعه شيئا وقبضه، فوجد به عيبا في يد المشتري يمكن حدوثه بيده.. فإن القول قول البائع. وإن قال المرتهن: رهنتنيه وهو خمر. وقال الراهن: رهنتكه، وهو عصير، وقبضته عصيرا، وإنما صار خمرا في يدك.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو علي بن أبي هريرة: القول قول المرتهن، قولا واحدا؛ لأنه لا ينكر أصل العقد.
وقال سائر أصحابنا: هي على قولين كالتي قبلها. وهو المنصوص في " مختصر المزني ".

.[فرع: رهن عبدا ملفوفا]

وإن رهنه عبدا، وأقبضه إياه ملفوفا في ثوب، فوجد ميتا، فقال المرتهن: أقبضتنيه ميتا. وقال الراهن: أقبضتكه حيا، ثم مات عندك.. ففيه طريقان:
أحدهما قال عامة أصحابنا: هي على قولين، كالعصير.
والثاني: قال أبو علي الطبري: القول قول المرتهن، قولا واحدا. والصحيح هو الأول؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها.

.[مسألة: رهنا عبدا على مائتي دينار]

إذا كان لرجلين على رجل مائتا دينار، لكل واحد منهما مائة، وله عبد، فادعى عليه كل واحد منهما أنه رهن عنده العبد، وأقبضه إياه، ولا بينة لهما، فإن كذبهما.. حلف لكل واحد منهما يمينا؛ لأن الأصل عدم الرهن، سواء كان العبد في أيديهما، أو في يده؛ لأن اليد لا يرجح بها في العقد. وإن صدق أحدهما، وكذب الآخر.. حكم بالرهن للمصدق، وسواء كان العبد في يد المصدق أو المكذب، وهل يحلف الراهن للمكذب؟ فيه قولان، بناء على من أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو، هل يغرم لعمرو قيمته؟ فيه قولان:
فإن قلنا: يغرم.. حلف هاهنا؛ لجواز أن يخاف اليمين، فيقر للمكذب، فتثبت له القيمة.
وإن قلنا: لا يغرم.. لم يحلف؛ لأنه لو أقر له بعد الإقرار الأول.. لم يحكم له بشيء، فلا فائدة في تحليفه.
وإن أقر لهما بالرهن والتسليم، فادعى كل واحد منهما أنه هو السابق بالرهن والتسليم.. رجع إلى الراهن، فإن قال: لا أعلم السابق منكما بذلك، فإن صدقاه أنه لا يعلم، ولا بينة لهما.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (أن الرهن ينفسخ)؛ لأنهما قد استويا في ذلك، والبيان من جهته قد تعذر، فحكم بانفساخ العقدين، كما نقول في المرأة إذا زوجها وليان لها من رجلين، وتعذر معرفة السابق منهما، وكذلك الجمعتان.
والثاني: يقسم بينهما؛ لأنه يمكن قسمته بينهما، ويمكن أن يكون رهن عند كل واحد منهما نصفه.
وإن كذباه، وقالا: بل هو يعلم السابق من العقدين والتسليم فيه.. فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم العلم.
قال الشيخ أبو حامد: فيحلف لكل واحد منهما يمينا: أنه لا يعلم أنه السابق، فإذا حلف لهما.. كانت على وجهين، مضى ذكرهما:
المنصوص: (أنه ينفسخ العقدان).
والثاني: يقسم بينهما.
وإن نكل عن اليمين.. عرضنا اليمين عليهما، فإن حلف كل واحد منهما: أن الراهن يعلم أنه هو السابق.. قال ابن الصباغ: كانت على الوجهين الأولين:
المنصوص: (أن الرهنين ينفسخان).
والثاني: يقسم بينهما.
وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر.. حكم بالرهن للحالف دون الآخر. وإن اعترف الراهن أنه يعلم السابق منهما، وقال: هذا هو السابق، لم يخل: إما أن يكون الرهن في يد الراهن، أو في يد أجنبي، أو في يد أحد المرتهنين، أو في يدهما، فإن كان الرهن في يد الراهن، أو في يد أجنبي، أو في يد المقر له بالسبق.. حكم بالرهن للمقر له؛ لأنه اجتمع له اليد والإقرار، وهل يحلف الراهن للآخر؟ فيه قولان، وحكاهما الشيخ أبو حامد وجهين:
المنصوص: (أنه لا يحلف له؛ لأنه لو أقر للثاني.. لم ينزع الرهن من يد المقر له، فلا معنى لاستحلافه).
والثاني: يحلف له؛ لأنه ربما خاف من اليمين، فأقر للثاني، فتؤخذ منه القيمة، فتكون رهنا مكانه.
فإذا قلنا: لا يمين عليه.. فلا كلام. وإن قلنا: عليه اليمين.. نظرت:
فإن حلف للثاني.. انصرف.
وإن خاف من اليمين، فأقر للثاني أنه رهنه أولا، وأقبضه.. لم يقبل هذا الإقرار في حق المقر له أولا بانتزاع الرهن منه، ولكن تؤخذ من المقر قيمة الرهن، وتجعل
رهنا عند الثاني المقر له؛ لأنه حال بينه وبينه بإقراره المتقدم.
وإن نكل عن اليمين.. ردت على الثاني، فإن لم يحلف.. قلنا له: اذهب فلا حق لك. وإن حلف، فإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة.. انتزع الرهن من يد الأول، وسلم إلى الثاني. قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: إلا أن أصحابنا لم يفرعوا على هذا القول، وهذا يدل على ضعفه. وإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالإقرار.. فذكر في "المهذب" هاهنا ثلاثة أوجه:
أحدها ـ ولم يذكر في "التعليق" و "الشامل" غيره ـ: أن الرهن لا ينزع من يد الأول، ويلزم المقر أن يدفع قيمته إلى الثاني المقر له ليكون رهنا عنده؛ لأنه حال بينه وبينه بإقراره الأول.
والثاني: يجعل بينهما؛ لأنهما استويا في الإقرار، ويجوز أن يكون مرهونا عندهما، فجعل بينهما.
والثالث: ينفسخ الرهن؛ لأنه أقر لهما، وجهل السابق منهما.
وإن كان الرهن في يد الذي لم يقر له.. فقد حصل لأحدهما الإقرار، وللآخر اليد، وفيه قولان:
أحدهما: أن صاحب اليد أولى، فيكون القول قوله مع يمينه: أنه السابق، كما لو قال: بعت هذا العبد من أحدهما، وكان في يد أحدهما.. فالقول قوله مع يمينه.
والثاني: أن القول قول الراهن: أن الآخر هو السابق؛ لأنه إذا اعترف أن السابق هو الآخر.. فهو يقر أنه لم يرهن ممن بيده شيئا، ومن بيده يدعي ذلك، فيكون كما لو ادعى عليه أنه رهنه.
فإذا قلنا بهذا: فهل يحلف الراهن لمن هو بيده؟ على القولين فيمن أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو، على ما مضى من التفريع.
وإن كان الرهن في يد المرتهنين.. فقد اجتمع لأحدهما اليد والإقرار في النصف، فيكون أحق به، وهل يحلف للآخر عليه؟ على القولين.
وأما النصف الذي في يد الآخر: فهل اليد أقوى، أو الإقرار؟ على القولين الأولين.
فإن قلنا: إن اليد أقوى.. حلف من هو في يده عليه، وكان رهنا بينهما، وهل يحلف المقر لمن لم يقر له على النصف الذي بيد المقر له؟ على القولين.
وإن قلنا: الإقرار أولى.. انتزع العبد، فجعل رهنا للمقر له، وهل يحلف للآخر على جميعه؟ على القولين فيمن أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو والمنصوص هاهنا: (أنه لا يحلف).

.[مسألة: رهن عبدا أو أقبضه]

إذا رهن عند رجل عبدا، وأقبضه إياه، ثم أقر الراهن أنه جنى قبل الرهن على غيره جناية توجب المال، أو أتلف عليه مالا، فإن لم يصدقه المقر له.. لم يحكم بصحة الإقرار؛ لأنه أقر لمن لا يدعيه. وإن صدقه المقر له، فإن صدقهما المرتهن.. حكم بصحة الإقرار، وكان للمرتهن الخيار في فسخ البيع إن كان مشروطا فيه، وإن كذبهما المرتهن.. ففيه قولان:
أحدهما ـ وهو الضعيف ـ: أن القول قول الراهن؛ لأنه غير متهم في هذا الإقرار؛ لأن المجني عليه يأخذ الأرش، ويبقى حق المرتهن في ذمة الراهن، فلا تهمة عليه فيه، وكل من أقر بما لا تهمة عليه فيه.. قبل، كالزوجة إذا أقرت بقتل العمد.. فإنه يقبل إقرارها، ولأنه لو أجر عبده، ثم أقر أنه جنى قبل الإجارة.. قبل إقراره، فكذلك في الرهن مثله.
والقول الثاني: أن القول قول المرتهن، وهو قول أبي حنيفة، والمزني، وهو الصحيح؛ لأنه معنى يبطل حق الوثيقة من عين الرهن، فلم يملكه الراهن، كما لو باعه، ولأنه متهم؛ لأنه ربما واطأ المقر له ليبطل الوثيقة، ويأخذ العبد، ويخالف الإجارة، فإن الإجارة عقد على المنفعة، ويمكن استيفاء المنفعة منه، ثم يباع في الجناية.
فإن لم يقر بأنه جنى، ولكن أقر بعد الرهن والإقباض أنه كان غصب هذا العبد، أو باعه، أو أعتقه قبل الرهن، وأنكر المرتهن ذلك.. قال الشيخ أبو حامد: ففيه قولان، كما لو أقر أنه كان جنى. وقال ابن الصباغ: ينبغي أن يكون في الإقرار بالعتق قول ثالث: إن كان موسرا.. نفذ إقراره، وإن كان معسرا.. لم ينفذ إقراره، ويجري الإقرار به مجرى الإعتاق.
فأما إذا باع عبدا، ثم أقر أنه كان جنى قبل البيع، أو كان أعتقه، أو غصبه، أو باعه من غيره.. لم يقبل في حق المشتري، قولا واحدا؛ لأن البيع يزيل ملكه.
وإن كاتب عبدا، ثم أقر أنه كان جنى قبل ذلك.. لم يقبل أيضا إقراره، قولا واحدا؛ لأن المكاتب بمنزلة من زال ملكه عنه؛ لأن أرش الجناية عليه لا يرجع إليه وإن كاتبه، ثم أقر أنه كان أعتقه، أو باعه قبل ذلك.. قال الشيخ أبو حامد: عتق في الحال، وسقط المال عنه؛ لأن إقراره بذلك إبراء منه له من مال المكاتبة.
إذا ثبت هذا: رجعنا إلى الرهن، فإن قلنا: القول قول الراهن.. فهل يحتاج أن يحلف؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان. وقال الشيخ أبو حامد: هما وجهان:
أحدهما: أن عليه اليمين، وهو اختيار الشيخ أبي حامد، وهو المنصوص؛ لأن ما قاله يحتمل الصدق والكذب، فلم يكن بد من اليمين، كما لو ادعى دارا في يد غيره، فأنكر.. فلا بد من يمين المنكر؛ لأنه يمكن صدقه وكذبه.
فعلى هذا: إذا حلف.. فإنه يحلف على البت والقطع؛ لأنها يمين إثبات.
والثاني: أنه لا يمين عليه، وهو اختيار القاضي أبي الطيب؛ لأنه لو رجع عن هذا الإقرار.. لم يقبل رجوعه، فلا معنى لعرض اليمين عليه.
فإذا قلنا: عليه اليمين، فحلف، أو قلنا: لا يمين عليه، فإن كانت قيمة العبد بقدر أرش الجناية أو أقل.. بيع العبد لأجل الأرش، ولا كلام. وإن كان أرش الجناية أقل من قيمة العبد، فإن قلنا: إن رهن العبد الجاني صحيح.. بيع منه بقدر أرش الجناية، وكان الباقي منه رهنا. وإن لم يمكن بيع بعضه إلا ببيع جميعه.. بيع جميعه، وكان ما فضل من ثمنه عن أرش الجناية رهنا. وإن قلنا: إن رهن الجاني باطل.. بطل في قدر أرش الجناية، وهل يبطل فيما زاد على الأرش؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه باطل، فيكون للراهن مطلقا؛ لأن تعلق الأرش بالرقبة وإن قل يبطل الرهن.
والثاني: لا يبطل الرهن فيما يفضل عن أرش الجناية؛ لأن ما زاد على أرش الجناية لا يدعيه المجني عليه، فلم يحكم ببطلان الرهن فيه، كما لو لم يدع المجني عليه الجناية.. فإنه لا يحكم ببطلان الرهن.
فإن اختار السيد أن يفديه، إذا قلنا: القول قوله.. فبكم يفديه؟ فيه قولان:
أحدهما: بأقل الأمرين من قيمته، أو أرش الجناية.
والثاني: بأرش الجناية بالغا ما بلغ، أو يسلمه للبائع، كما لو ثبتت جنايته بالبينة، أو كان غير مرهون.
وإذا قلنا: إن القول قول المرتهن.. فإن عليه اليمين، قولا واحدا؛ لأنه لو اعترف بالجناية.. لصح اعترافه.
فعلى هذا: يحلف: أنه ما يعلم أنه جنى؛ لأنه يحلف على نفي فعل غيره.
فإن حلف المرتهن.. بقي الرهن في العبد بحاله، وهل يلزم الراهن أن يغرم للمجني عليه؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه قد فعل ما يلزمه في الشرع، وهو الإقرار، فإذا منع الشرع من قبول إقراره.. لم يلزمه ضمان.
فعلى هذا: إذا رجع العبد إليه، بأن فكه من الرهن، أو أبرئ من الدين، أو بيع في الدين، فرجع إليه ببيع، أو هبة، أو إرث.. تعلق الأرش برقبته؛ لأنا إنما منعنا من نفوذ إقراره بحق المرتهن، وقد زال.
والقول الثاني: يلزمه أن يغرم؛ لأنه منع من بيعه لأرش الجناية بعقد الرهن، فصار كما لو قتل عبده، ثم أقر أنه كان جنى.. فإنه يلزمه الغرم للمجني عليه.. ولا فرق بين أن يعلم بالجناية عند عقد الرهن، أو لا يعلم؛ لأن حقوق الآدميين تضمن بالعمد والخطأ.
فإذا قلنا بهذا: فكم يلزمه أن يغرم؟ فيه طريقان:
الطريق الأول قال أبو إسحاق: فيه قولان:
أحدهما: أقل الأمرين من قيمته، أو أرش الجناية.
والثاني: أرش الجناية بالغا ما بلغ، كالمسألة قبلها.
والطريق الثاني قال أكثر أصحابنا: يلزمه أقل الأمرين، قولا واحدا، وهو المنصوص؛ لأنه لا يمكن البيع هاهنا، فهو كأم الولد.
قال ابن الصباغ: ويمكن من قال بالطريق الأول أن يجيب عن هذا: بأن هذا منع من بيعه بالرهن بعد أن كان يمكن بيعه بالجناية، وأم الولد منع من بيعها قبل الجناية.
فإن نكل المرتهن عن اليمين.. فعلى من ترد اليمين؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (أنها ترد على المجني عليه)؛ لأن الأرش له، فحلف لإثباته.
والثاني: من أصحابنا من قال: ترد على الراهن؛ لأنه هو المالك للرهن، والخصومة بينه وبينه فيه.
فإذا قلنا: ترد اليمين على المجني عليه، فنكل.. فهل ترد على الراهن؟ فيه قولان.
وإن قلنا: ترد على الراهن، فنكل.. فهل ترد على المجني عليه؟ فيه قولان، بناء على القولين في المفلس إذا أقام شاهدا على حق له على غيره، ولم يلحف معه.. فهل يحلف الغرماء معه؟ فيه قولان.